الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الاختيار لتعليل المختار ***
(وهو النصيب من الماء) للأراضي وغيرها. قال الله تعالى: {لها شرب ولكم شرب يوم معلوم} [الشعراء: 155]. قال: (وقسمة الماء بين الشركاء جائزة) وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والناس يفعلونه فأقرهم عليه، وتعامله الناس إلى يومنا من غير نكير، وهو قسمة باعتبار الحق دون الملك، لأن الماء غير مملوك في النهر، والقسمة تارة تكون باعتبار الملك، وتارة باعتبار الحق كقسمة الغنائم. قال: (ويجوز دعوى الشرب بغير أرض) استحسانا لجواز أن يكون الشرب حقا له بدون الأرض بأن اشترى الأرض والشرب ثم باع الأرض وبقي الشرب أو ورثه، وقد يملك بالإرث ما لا يملك بالبيع كالقصاص والخمر؛ وإذا شهدوا بشرب يوم من النهر لا تقبل إذا لم يقولوا من كم يوم، ولو ادعى أرضا على نهر شربها منه فشهدوا له بالأرض قضي بها وبحصتها من الشرب، لأن الأرض لا تنفك عن الشرب؛ ولو ادعى الشرب وحده فشهدوا له لا يقضي بشيء من الأرض. قال: (ويورث ويوصي بمنفعته دون رقبته) لأنه حق مالي فيجري فيه الإرث وجهالة الموصى به لا تمنع الوصية، لأن الوصية من أوسع العقود حتى جازت للمعدوم وبالمعدوم. قال: (ولا يباع ولا يوهب، ولا يتصدق به) للجهالة الفاحشة وعدم تصور القبض، ولأنه ليس بمتقوّم حتى لو سقي به غيره لا يضمن (ولا يصلح مهرا) لما بينا ويجب مهر المثل (ولا بدلا في الخلع) حتى ترد ما قبضت من المهر (ولا بدلا في الصلح عن دعوى المال ولا في القصاص) ويسقط القصاص وتجب الدية. (والمياه أنواع) الأول (ماء البحر، وهو عام لجميع الخلق الانتفاع به بالشفة وسقي الأراضي وشق الأنهار) لا يمنع أحد من شيء من ذلك كالانتفاع بالشمس والهواء. (و) الثاني (الأودية والأنهار العظام كجيحون وسيحون والنيل والفرات ودجلة، فالناس مشتركون فيه في الشفة وسقي الأراضي ونصب الأرحية) والدوالي إذا لم يضر بالعامة، وذلك بأن يحيي مواتا ويشق نهرا لسقيها ليس في ملك أحد لأنه مباح في الأصل وغلبة الماء تمنع قهر غيره واستيلاءه عليه، وإن كان يضر بالعامة فليس له ذلك، لأن دفع الضرر عنهم واجب، وذلك بأن يكسر ضفته فيميل الماء إلى جانبها فيغرق الأراضي والقرى، وكذا شق الساقية للرحى والدالية. (و) الثالث (ما يجري في نهر خاص لقرية فلغيرهم فيه شركة في الشفة) وهو الشرب والسقي للدواب، ولهم أخذ الماء للوضوء وغسل الثياب والخبز والطبخ لا غير، وإن أتى على الماء كله. روي أنه وردت عن أبي حنيفة مسائل من خراسان فدفعها إلى زفر ليكتب فيها: منها رجل له ماء يجري إلى مزارعه فيجيء رجل فيسقي إبله ودوابه منه حتى ينفذه كله هل له ذلك ؟ فكتب زفر: ليس له ذلك، فعرضها على أبي حنيفة فغلطه وقال: لصاحب الإبل ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (الناس شركاء في ثلاث) الحديث، والحديث يشمل الشّربَ والشِّربْ، إلا أن الشرب خص في النهر الخاص دفعا للضرر عن أهله، وبقي حق الشفعة للضرورة إما لشدة الحاجة، أو لأنه لا يقدر على استصحاب الماء في كل مكان. والبئر والحوض حكمهما حكم النهر الخاص. (و) الرابع (ما أحرز في حب ونحوه فليس لأحد أن يأخذ منه شيئا بدون إذن صاحبه وله بيعه) لأنه ملكه بالإحراز وصار كالصيد والحشيش إلا أنه لا يقطع في سرقته لقيام شبهة الشركة فيه بالحديث. قال: (ولو كانت البئر أو العين أو النهر في ملك رجل له منع من يريد الشفة من الدخول في ملكه إن كان يجد غيره بقربه في أرض مباحة، فإن لم يجد فإما أن يتركه يأخذ بنفسه) بشرط أن لا يكسر ضفته (أو يخرج الماء إليه، فإن منعه وهو يخاف العطش على نفسه أو مطيته قاتله بالسلاح) لما روي أن قوما وردوا ماء فسألوا أهله أن يدلوهم على البئر فأبوا، فسألوهم أن يعطوهم دلوا فأبوا، فقالوا لهم: إن أعناقنا وأعناق مطايانا قد كادت تنقطع فأبوا أن يعطوهم؛ فذكروا ذلك لعمر رضي الله عنه فقال: هلا وضعتم فيهم السلاح ؟ ولأنه منع المضطر عن حقه، لأن حقه ثابت في الشفة فكان له أن يقاتله بالسلاح. (وفي المحرز بالإناء يقاتله بغير سلاح) لأنه ملكه بالإحراز حتى كان له تضمينه، إلا أنه مأمور أن يدفع إليه قدر حاجته فبالمنع خالف الأمر فيؤدبه (والطعام حالة المخمصة كالماء المحرز بالإناء) في الإباحة والمقاتلة والضمان لما بينا، ولو كان النهر أو البئر في موات قد أحياه فليس له أن يمنع صاحب الشفة من الدخول إذا كان لا يكسر المسناة، لأن الموات كان مشتركا والإحياء لحق مشترك فلا يقطع حق الشفعة. والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (المسلمون) وفي رواية (الناس مشتركون في ثلاث: في الماء والكلأ والنار) أثبت الشركة فيها للناس كافة، المسلمون والكفار فيه سواء فحكم الماء ما ذكرنا. وأما الكلأ إن كان في أرض مباحة فالناس فيه شركاء في الاحتشاش والرعي كاشتراكهم في ماء البحر، وإن كان في أرض مملوكة وقد نبت بنفسه فهو كالنهر في أرضه لا يمنع عنه وله المنع من الدخول في ملكه، وإن لم يجد غيره فعلى التفصيل الذي ذكرنا في الماء، وإن أنبته في أرضه فهو مملوك له، والكلأ ما انبسط على الأرض ولا ساق له كالإذخر ونحوه؛ أما له ساق فهو شجر وهو ملك لصاحب الأرض لأنه عليه الصلاة والسلام إنما أثبت الشركة في الكلأ لا في الشجر، والعوسج من الشجر. وأما النار فلو أوقد نارا في مفازة فالجمر ملكه وليس له أن يمنع أحدا من الاستضاءة والاصطلاء وأن يتخذ منها سراجا، لأن الجمر من الحطب وأنه ملكه والنور جوهر الجمر، ولأنا لو أطلقنا الناس في أخذ الجمر لم يبق له ما يصطلي به ولا ما يخبز ويطبخ به، وإن أوقد النار في ملكه فله أن يمنع غيره من الدخول في ملكه لا من النار كما مر في الملأ والكلأ.
(كري الأنهار العظام على بيت المال) وهي التي لا تدخل في القاسم كسيحون وإخوته جيحون والنيل ودجلة والفرات وما شابهها، لأن منفعتها للعامة فيكون في مالهم، فإن لم يكن في بيت المال شيء أجبر الناس على كريه إذا احتاج إلى الكري إحياء لحق العامة ودفعا للضرر عنهم، لكن يخرج الإمام من يطيق العمل ويجعل مؤونتهم على المياسير الذين لا يطيقونه (وما هو مملوك للعامة فكريه على أهله) لأن منفعته لهم. (ومن أبى منهم يجبر) دفعا للضرر العام، وهو ضرر الشركاء بالضرر الخاص، كيف وفيه منفعته فلا يعارضه وإن كان فيه ضرر عام بأن خافوا أن ينشق النهر فيخرج الماء إلى طريق المسلمين وأراضيهم، فعليهم تحصينه بالحصص، والنهر المملوك لجماعة مخصوصين فكريه عليهم، ومن أبى منهم قيل يجبر لما مر، وقيل لا يجبر لأن كل واحد من الضررين خاص، ويمكن دفعه بالكري بأمر القاضي، ثم يرجع على الآبي، ولا كذلك الأول. قال: (ومؤونة الكري إذا جاوز أرض رجل ترفع عنه) وقالا: الكري عليهم جميعا من أوله إلى آخره بحصص الشرب والأراضي لأن الأعلى يحتاج إلى ما وراء أرضه لتسييل ما فضل من مائه كي لا يغرق أهله. ولأبي حنيفة أنه متى جاوز الكري أرضه تمكن من سقيها واندفعت حاجته فلا يلزمه ما بعد ذلك، حتى لو أمكنه السقي بدون الكري لا يجب عليه الكري وما ذكر من الحاجة يندفع بسده من أعلاء، وليس على صاحب المسيل عمارته كمن له على سطح آخر مسيل ماء. وإذا جاوز الكري أرض رجل هل له أن يفتح الماء ؟ قيل له ذلك لأن الكري قد انتهى في حقه، وقيل لا، لأنه لا يختص بالانتفاع بالماء، ولهذا جرت العادة بالكري من أسفل النهر أو بترك بعضه من أعلاه. قال: (وليس على أهل الشفة شيء من الكري) لأنها شركة عامة. قال: (نهر لرجل يجري في أرض غيره ليس لصاحب الأرض منعه) لأن صاحب النهر مستعمل له بإجراء مائه عملا بالبينة، وعلى هذا المصب في نهر أو على سطح والميزاب والطريق في دار غيره إلا أنه لا بد له أن يقول في الدعوى مصب ماء الوضوء أو المطر أو غيره لمكان التفاوت. قال: (نهر بين قوم اختصموا في الشرب فهو بينهم على قدر أراضيهم) لأن المقصود من الشرب سقي الأرض فيقدر بقدرها، بخلاف الطريق لأن التطرق إلى الدار الواسعة والضيقة سواء، ولو كان لبعض الأراضي ساقية وللبعض دالية ولا شيء للبعض وليس لها شرب معلوم فالشرب بينهم على قدر أراضيهم التي على حافة النهر، لأن المقصود من النهر سقي الأرض لا اتخذ السواقي والدوالي فيستوي حالهم فيما هو المقصود، ولأن الأراضي في الأصل لا بد لها من شرب؛ وإن كان لها شرب معروف من غير هذا النهر فلا حق له في هذا النهر. قال: (وليس للأعلى أن يسكر حتى يستوفي إلا بتراضيهم) لما فيه من إبطال حق الباقين وهو منع الماء عنهم في بعض المدة، ولأنه يحتاج إلى إحداث شيء في وسط النهر وربما ينكبس مما يحدث فيه عند السكر، ورقبته مشتركة بينهم فلا يجوز لكن يشرب بحصته، فإذا رضوا بذلك جاز لأن الحق لهم، وكذلك لو اصطلحوا على أن يسكر كل واحد في نوبته جاز لما قلنا. لكن لا يسكر إلا بلوح أو باب ولا يسكر بالطين والتراب لأنه يكبس النهر وفيه ضرر، وإن لم يسكر باللوح فبالتراب. قال: (وليس لأحدهم أن يشق منه نهرا، أو ينصب عليه رحى، أو يتخذ عليه جسرا، أو يوسع فمه، أو يسوق شربه إلى أرض ليس لها شرب إلا بتراضيهم) أما شق النهر ونصب الرحى فلأن فيه كسر ضفة النهر وشغل ملك الغير ببنيانه، إلا أن لا تضر الرحى بالنهر ولا بالماء ويكون مكانها له خاص فيجوز، لأنه تصرف في ملكه من غير إضرار بالغير. وأما اتخاذ الجسر فهو كطريق خاص بين قوم والقنطرة كالجسر. وأما توسعة فمه لأنه يكسر ضفة النهر ويزيد على مقدار حقه. وأما سوق شربه إلى أرض أخرى فلأنه ربما تقادم العهد فيدعيه ويستدل به على أنه له، فإذا رضوا بذلك جاز لأنه حقهم. قال: (ولو كانت القسمة بالكوى فليس لأحدهم أن يقسم بالأيام، ولا مناصفة) لأن الحق ظهر بذلك فيترك على حاله، إلا أن يتراضيا لأن الحق لهما. قال: (ولا يزيد كوة وإن كان لا يضر بالباقين) لما بينا، بخلاف النهر الأعظم لأن له أن يشق فيه نهرا مبتدأ فزيادة الكوة أولى.
(وهي) مفاعلة من الزراعة وهي الحرث والفلاحة، وتسمى مخابرة، مشتقة من خيبر فإنه صلى الله عليه وسلم: (دفع خيبر مزارعة) فسميت المزارعة مخابرة لذلك، أو من الخيبر وهو الإكار، أو من الخبرة بالضم: النصيب، أو من الخبار: الأرض اللينة، وتسمى المحاقلة مشتقة من الحقل وهو الزرع إذا تشعب قبل أن يغلظ سوقه، وقيل الحقل: الأرض الطيبة الخالصة من شائبة السبخ الصالحة للزراعة وتسمية أهل العراق القراح. وفي الشرع (عقد على الزرع ببعض الخارج، وهي جائزة عند أبي يوسف ومحمد) لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (عامل أهل خيبر على نصف ما يخرج من تمر وزرع، ولأن الحاجة ماسة إليها لأن صاحب الأرض قد لا يقدر على العمل بنفسه ولا يجد ما يستأجر به والقادر على العمل لا يجد أرضا ولا ما يعمل به، فدعت الحاجة إلى جوازها دفعا للحاجة كالمضاربة. (وعند أبي حنيفة هي فاسدة) لما روى رافع بن خديج قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عن أمر كان لنا نافعا، نهانا إذا كان لأحدنا أرض أن نعطيها ببعض الخارج ثلثه أو نصفه، وقال: من كانت له أرض فليزرعها أو يمنحها أخاه) وهذا متأخر عما كانوا يعتقدونه من الإباحة ويعملونه فاقتضى نسخه. وعن زيد بن ثابت قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عن المخابرة قال: قلت وما المخابرة ؟ قال: أن تأخذ أرضا بثلث أو نصف أو ربع) وعن ابن عمر قال: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى ذكر رافع بن خديج) أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن المخابرة) فتركناه من أجل قوله؛ ولأنه استئجار بأجرة مجهولة معدومة وذلك مفسد؛ ولأنه استئجار ببعض ما يحصل من عمله فلا يجوز كقفيز الطحان، وحديث خيبر محمول على أنه خراج مقاسمة، فإنه عليه الصلاة والسلام لما فتح خيبر عنوة ترك خيبر على أهلها بوظيفة وظفها عليهم، وهي نصف ما يخرج من نخيلهم وأراضيهم. (والفتوى على قولهما) لحاجة الناس، وقد تعامل بها السلف فصارت شريعة متوارثة وقضية متعارفة. قال الحصيري: وأبو حنيفة هو الذي فرّع هذه المسائل على أصوله لعلمه أن الناس لا يأخذون بقوله. قال: (ولا بدّ فيها من التاقيت) لأنها تنعقد إجارة ابتداء وشركة انتهاء، ولأنها ترد على منفعة الأرض والعامل فلا بد من تعيين المدة كالإجارة. قال: (ومن صلاحية الأرض للزراعة) ليحصل المقصود إذ هي المحل. قال: (ومن معرفة مقدار البذر) قطعا للمنازعة (ومعرفة جنسه) لأنه الأجرة (ونصيب الآخر) لأنه يستحقه عوضا بالشرط، ولا بد أن يكون العوض معلوما. قال: (والتخلية بين الأرض والعامل) لما مر في المضاربة (وأن يكون الخارج مشتركا بينهما) لما مر في المضاربة فكل شرط يؤدي إلى قطع الشركة يفسدها (حتى لو شرطا لأحدهما قفزانا معلومة، أو ما على السواقي، أو أن يأخذ رب البذر بذره، أو الخراج فسدت) لأنه يؤدي إلى قطع الشركة، وقد مر في المضاربة. قال: (وإن شرط رفع العشر جاز) لأنه لا يؤدي إلى قطع الشركة لأنه لا بد أن يبقى بعده تسعة أعشار فتبقى الشركة فيه، بخلاف الخراج والبذر لأنه قد لا يخرج إلا ذلك القدر أو أقل منه، فيؤدي إلى قطع الشركة فيبطل. قال: (وإذا كانت الأرض والبذر لواحد والعمل والبقر لآخر، أو كانت الأرض لواحد والباقي لآخر، أو كان العمل من واحد والباقي لآخر فهي صحيحة) لأنه استئجار للأرض أو للعامل. أما الأول فلأنه استئجار للعامل والبقر آلة العمل فكانت تابعة له لا يقابلها أجرة كابر الخياط. وأما الثاني فهو استئجار الأرض ببعض معلوم فصار كالدراهم المعلومة. وأما الثالث فهو استئجار للعامل ليعمل بآلة المستعمل كما إذا شرط على الخياط أن يخيط بإبرة صاحب الثوب. (وإذا صحت المزارعة فالخارج على الشرط) عملا بالتزامهما، قال عليه الصلاة والسلام: (المؤمنون عند شروطهم) (فإن لم يخرج شيء فلا شيء للعامل) لأنها شركة في الخارج ولا خارج وصار كالمضارب إذا لم يربح، وإن كانت إجارة فقد عيّن الأجرة فلا يستحق غيرها، بخلاف الفاسدة، لأن أجر المثل يتعلق بالذمة فلا يفوت بفوات الخارج. قال: (وما عدا هذه الوجوه فاسدة) وهي ثلاثة أيضا: وهي أن يكون البقر والآلات من رب الأرض والبذر من العامل، أو يكون البذر من أحدهما والباقي من الآخر، أو تكون الأرض من واحد والبقر من آخر والبذر من آخر والعمل من آخر. أما الأول فمذكور رواية الأصل. وروي عن أبي يوسف رحمه الله جوازه لأنه استئجار الأرض ببعض الخارج فيجوز ويجعل البقر تبعا للأرض كما تجعل تبعا للعامل. وجه الظاهر أن منفعة البقر من جنس منفعة العامل لأن الكل عمل فأمكن جعلها تبعا للعامل وليست من جنس منفعة الأرض، لأن منفعة الأرض قوة في طبعها بخلق الله تعالى يحصل بها النماء فلا يمكن جعلها تبعا. وأما الثاني فلأنه شركة بين البذر والعمل ولم يرد به الشرع. وأما الثالث فلما روي أن أربعة اشتركوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قبل أحدهم الأرض، ومن قبل الآخر البذر، ومن قبل الآخر البقر، ومن قبل الآخر العمل فأبطلها عليه الصلاة والسلام. قال أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في شرح الآثار: فزرعوا ثم حصدوا ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم: (، فجعل الزرع لصاحب البذر، وجعل لصاحب العمل أجرا معلوما، وجعل لصاحب الفدان كل يوم درهما، وألغى الأرض في ذلك. ووجه آخر فاسد أيضا، وهو أن يكون البذر والبقر من جانب والعمل والأرض من جانب، لما مر في الوجه الثاني. قال: (وإذا فسدت فالخارج لصاحب البذر) لأنه نمار ملكه، والآخر إنما يستحقه بالتسمية وقد فسدت (وللآخر أجر عمله) إن كان البذر من رب الأرض (أو أجر أرضه) إن كان البذر من قبل العامل (لا يزاد على قدر المسمى) لأنه رضي بقدر المسمى. وقال محمد رحمه الله: تجب بالغة ما بلغ، وقد سبق في الإجارة. وإذا كان البذر لرب الأرض في المزارعة الفاسدة طاب له جميعه لأنه نماء بذره في أرضه، وإن كان من العامل طاب له قدر بذره وقدر أجر الأرض، وتصدق بالفضل لأنه حصل من بذره لكن في أرض مملوكة للغير بعقد فاسد أوجب خبثا، فما كان عوض ماله طاب له وتصدق بالفضل، وإن شرطا عملهما جميعا فهي فاسدة، لأن البذر إن كان من صاحب الأرض وقد شرط عمله لم توجد التخلية بين الأرض والعامل، وقد بينا أنها شرط؛ وإن كان من العامل فالعامل قد استأجر الأرض، فإذا شرط عمل صاحبها لم يسلم له ما استأجر فيبطل، ولو شرطا الخارج كله لأحدهما والبذر من صاحب الأرض جاز، فإن شرطاه له يكون مستعينا بالعامل ليزرع أرضه، وإن شرطاه للعامل يكون إجارة للأرض وإقراضا للبذر فيه؛ وإن كان البذر من العامل فإن شرطاه لرب الأرض فسدت، والخارج لرب البذر وعليه مثل أجر الأرض لأنه يصير مستأجرا للأرض بجميع الخارج وأنه يقطع الشركة، وإن شرطاه للعامل جاز ويكون معيرا أرضه منه. قال: (ولو شرطا التبن لرب البذر صح) معناه بعد شرط الحب بينهما لأنه حكم العقد لأن التبن من البذر (وإن شرطاه للآخر لا يصح) لأنه ربما لا يخرج إلا التبن، وهو إنما يستحقه بالشرط، ولو شرطا الحب نصفين ولم يتعرضا للتبن صحت الشركة في المقصود، والتبن لرب البذر لأنه نماء بذره، وقيل بينهما تبعا للحب؛ ولو شرطا التبن لأحدهما والحب للآخر فهي فاسدة لأنه ربما يصيبه آفة فلا ينعقد الحب. قال: (وإن عقداها فامتنع صاحب البذر لم يجبر) ولا شيء عليه من عمل الكراب في القضاء، ويلزمه ديانة أن يرضيه لأنه غرة؛ والأصل فيه أن المزارعة غير لازمة في حق صاحب البذر لأنه لا يمكنه الوفاء بالعقد إلا بإتلاف ماله وهو البذر، وهي لازمة في حق الآخر، لأن منفعة العامل أو منفعة الأرض صارت مستحقة للآخر فيجب عليه تسليمها. قال: (وإن امتنع الآخر أجبر) لأن العقد لازم كالإجارة ولا ضرر عليه في الوفاء به (إلا أن يكون عذر تفسخ به الإجارة فتفسخ به المزارعة) لأنها في معنى الإجارة؛ وإذا لزم رب الأرض دين واحتاج إلى بيعها فيه باعها الحاكم كما في الإجارة (وليس للعامل أن يطالبه بأجرة الكراب وحفر الأنهار) لأن المنافع إنما تتقوم بالعقد وإنما قومت بالخارج وقد انعدم؛ ولو نبت الزرع ولم يحصد لا تباع الأرض حتى يستحصد لما فيه من إبطال حق المزارع وتأخير حق رب الدين أهون، ولا يحبسه القاضي لأنه ليس بظالم والحبس جزاء الظلم. قال: (وأجرة الحصاد والرفاع والدياس والتذرية عليهما بالحصص) لأن العقد انتهى بانتهاء الزرع لحصول المقصود، فبقي مالا مشتركا بينهما بغير عقد فتكون مؤونته عليهما؛ فإن أنفق أحدهما بغير إذن الآخر ولا أمر القاضي فهو متبرع، إذ لا ولاية له عليه (ولو شرطا ذلك على العامل لا يجوز) وأصله أنه متى شرط في المزارعة ما ليس من أعمالها فسدت، لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه نفع لأحدهما فصار كاشتراط الحمل عليه (وعن أبي يوسف جوازه، وعليه الفتوى) للتعامل كالاستصناع؛ ولو شرطا ذلك على رب الأرض لا يجوز بالإجماع لعدم التعارف، وإن شرطا ما هو من أعمال الزراعة لا يفسدها، وهو كل عمل ينبت ويزيد في الخارج، وما لا ينبت ولا يزيد ليس من عملها، وكل شرط ينتفع به رب الأرض بعد انقضاء المدة يفسدها، ككري الأنهار، وطرح السرقين في الأرض، وبناء الحائط، وتثنية الكراب؛ وقيل إن كانت المزارعة سنتين لا تفسد في التثنية، لأن منفعته لا تبقى؛ وقيل إن كان في الخضرة لا تفسد أيضا، لأن منفعته لا تبقى بعدها، فإنه لو كرب مرارا لا تبقى منفعته بسقي واحد، ولو بقيت فسدت. واختلفوا في التثنية، قيل هو أن يكربها مرتين وهو المشهور وفيه الكلام؛ وقيل أن يكربها بعد الحصاد ويسلم الأرض مكروبة، وهذا فاسد بكل حال، فكل عمل قبل الإدراك مما يحصل به الخارج كالحفظ والسقي على العامل، لأن رأس المال العمل، وما بعد الإدراك قبل القسمة عليهما على ما ذكرنا كالحصاد وإخوته، وما بعد القسمة كالحمل والطحن عليهما بالإجماع؛ ولو أراد فصل الزرع قصيلا أو جذاذ الثمرة بسرا أو التقاط الرطب فهو عليهما، لأنهما أنهيا العقد بعزمهما فصار كما بعد الإدراك. قال: (وإذا مات أحد المتعاقدين بطلت) لما مر في الإجارة، ولو مات رب الأرض والزرع لم يستحصد ترك حتى يحصد مراعاة للحقين وينتقض فيما بقي إن كان العقد على أكثر من سنة، لأن بقاءه في السنة الأولى لما بينا من العذر، وقد زال ولا ضرر فيه على العامل لما تقدم، ولو مات بعدما كرب وحفر انتقضت، ولا شيء للعامل في مقابلة عمله، وقد مر. قال: (وإذا انقضت المدة ولم يدرك الزرع فعلى المزارع أجرة نصيبه من الأرض حتى يستحصد) لأن إبقاء الزرع بأجرة المثل نظرا للجانبين. قال: (ونفقة الزرع عليهما حتى يستحصد) لانتهاء العقد فصار عملا في مال مشترك فيكون عليهما؛ ولو مات رب الأرض والزرع بقل، فالعمل على العامل لبقاء العقد ببقاء مدته.
ومن سقى أرضه فسال من مائه إلى أرض غيره فغرقها أو نزلت إليها فلا ضمان عليه. معناه: إذا سقاه سقيا معتادا، أما إذا كان غير معتاد ضمن لأنه متعد، لأنه تسبب لتغريق أرض الغير غالبا، ولو كان في أرضه جحر فأرة فخرج منه الماء إلى أرض جاره فغرقت إن لم يعلم به لم يضمن لعدم التعدي، وإن علم ضمن للتعدي، وعلى هذا إذا فتح رأس نهره فسال إلى أرض جاره فغرقت إن كان معتادا لا يضمن وإلا ضمن؛ وكذا لو أحرق الكلأ والحصائد في أرضه فذهبت النار فأحرقت شيئا لغيره إن كان إيقادا معتادا لا يضمن وإلا ضمن؛ وقيل إن كان يوم ريح وعلم أن النار تتعدى ضمن.
وتسمى معاملة، مفاعلة من السقي والعمل، وهي أن يقوم بما يحتاج إليه الشجر من تلقيح وعسف وتنظيف السواقي وسقي وحراسة وغير ذلك (وهي كالمزارعة في الخلاف والحكم) وقد مر. قال: (وفي الشرط إلا المدة) والقياس أن تذكر المدة لما فيها من معنى الإجارة؛ وفي الاستحسان يجوز وإن لم يبينها، وتقع على أول ثمرة تخرج، لأن وقت إدراك الثمرة معلوم والتفاوت فيه قليل ويدخل فيه المتيقن، بخلاف الزرع فإنه يختلف كثيرا ابتداء وانتهاء، ربيعا وخريفا وغير ذلك، وفي الرطبة إدراك بذرها لأن له نهاية معلومة، معناه: إذا دفعها بعدما تناهى نباتها ولم تخرج البذر فيقوم عليها ليخرج النذر، أما إذا دفعها وقد نبتت، أو دفع البذر ليبذره فهي فاسدة؛ وإن كان وقت جزها معلوما جاز، ويقع على الجزة الأولى كالثمرة في الشجر؛ ولو دفع غرس شجر أو كرم قد علق ولم تبلغ الثمرة على أن يقوم عليه والخارج نصفان فهي فاسدة لجهالة المدة، فإنه يختلف بقوة الأرض وضعفها، ولا يدري متى تحمل، فإن سميا مدة يعلم أنها تثمر فيه جاز. قال: (وإن سميا مدة لا تخرج الثمرة في مثلها فهي فاسدة) لفوات المقصود وهي الشركة في الخارج وإن شرطا وقتا قد تدرك الثمرة فيه وقد تتأخر عنه فهي موقوفة لأنا لا نتيقن بفوات المقصود، فإن أدركت فيه تبين أنها كانت جائزة، وإن لم تدرك ففاسدة، وله أجر مثله لفساد العقد، وكذلك إن أخرجت في تلك السنة ما لا يرغب فيه، وإن أحاك في تلك السنة فلم تخرج شيئا فهي جائزة، لأنه متى كان خروج الثمرة موهوما انعقدت موقوفة فلا تنقلب فاسدة. قال: (وإن دفع نخلا أو أصول رطبة ليقوم عليها وأطلق لا يجوز في الرطبة إلا بمدة معلومة) لأنه ليس لها نهاية معلومة، لأنها تنمو ما تركت في الأرض فجهلت المدة، ومعناه إذا لم يعلم وقت جوازها على ما تقدم. قال: (وتجوز المساقاة في الشجر والكرم والرطاب وأصول الباذنجان) لأن لعمله تأثيرا في نمائه وجودته لعموم الحاجة في الكل، وأهل خيبر كانوا يعملون في الأشجار والرطاب، وإنما يجوز ذلك (إذا كانت تزيد بالسقي والعمل) كالطلع والبلح والبسر ونحو ذلك حتى يكون لعمله أثر يستحق به شيئا من الخارج حتى لو دفعها وقد انتهت الثمرة في العظم ولا تزيد بعمله لا يجوز، لأنه لا أثر لعمله وهو إنما يستحق به، ومتى فسدت المساقاة فله أجر مثله وقد بيناه، وعلى هذا الزرع إن دفعه وهو بقل جاز، وإن كان قد استحصد لا يجوز. قال: (وتبطل بالموت) لأنها في معنى الإجارة وقد مر، فإن مات رب الأرض والخارج بسر فللعامل أن يقوم عليه حتى تدرك الثمرة، وإن أبى الورثة ذلك دفعا للضرر عنه ولا ضرر عليهم في ذلك؛ ولو أراد العامل قطعه وإدخال الضرر على نفسه فالورثة بالخيار، إما أن يقسموا البسر على الشرط، أو يعطوه قيمة نصيبه بسرا، أو ينفقوا على البسر ويرجعوا به على العاملي، لأنه ليس له إلحاق الضرر بهم، ودفعه متعين بما ذكرنا وإن مات العامل فلورثته أن يقوموا مقامه، وإن كره رب الأرض لما ذكرنا وفيه نظر للجانبين وإن أرادوا قطعه بسرا فلصاحب الأرض الخيارات الثلاث على ما بينا، وإن ماتا فورثة كل واحد كالموروث ونظيره في المزارعة إذا مات المزارع وقد نبت الزرع فلورثته أن يقوموا مقامه، وإن أبى رب الأرض لما بينا وإن أرادوا قلعه فللمالك الخيارات الثلاث على ما بينا، وإذا انقضت مدة المساقاة فهو كالموت، وللعامل أن يقوم عليها حتى تدرك ولا أجر عليه، بخلاف المزارعة، لأن الأرض يجوز استئجارها ولا يجوز استئجار الشجر والعمل كله على العامل، بخلاف المزارعة حيث تكون عليهما، لأنه لا أجر عليه هنا، فيكون العمل عليه حتى ينتهي. أما في المزارعة لما وجب عليه مثل نصف أجر الأرض لا يستحق عليه العمل، وتفسخ بالأعذار كما في الإجارة؛ ومما يختص بها من الأعذار كون العامل سارقا يسرق السعف والخشب والثمرة قبل الإدراك، لأنه يلزم المالك ضرر لم يلتزمه؛ ومنها مرض العامل إذا أعجزه عن العمل لأنه يلزمه الاستئجار بزيادة أجر وأنه ضرر لم يلتزمه، وليس للمالك الفسخ بغير عذر لما بينا في المزارعة أن المساقاة تلزم من الجانبين.
وهو في اللغة الضم والجمع، ومن أمثالهم: أنكحنا الفرا فسنرى: أي جمعنا بين حمار الوحش والأتان لننظر ما يتولد منهما، يضرب مثلا لقوم يجتمعون على أمر لا يدرون ما يصدرون عنه. وحكى المبرد عن البصريين وغلام ثعلب عن الكوفيين: أن النكاح عبارة عن الجمع والضم. وفي الشرع عبارة عن ضم وجمع مخصوص وهو الوطء، لأن الزوجين حالة الوطء يجتمعان وينضم كل واحد إلى صاحبه حتى يصيرا كالشخص الواحد، وقد يستعمل في العقد مجازا لما أنه يؤول إلى الضم، وإنما هو حقيقة في الوطء، فمتى أطلق النكاح في الشرع يراد به الوطء لقوله عليه الصلاة والسلام: (ولدت من النكاح) أي من وطء حلال، وقوله: (يحل للرجل من امرأته الحائض كل شيء إلا النكاح) وقد ورد في أشعار العرب بمعنى الوطء أيضا. قال الأعشى: ومنكوحة غير ممهورة وأخرى يقال له فادها يعني مسبية موطوءة بغير عقد ولا مهر. وقال آخر: ومن أيم قد أنكحتها رماحنا وأخرى على عم وخال تلهف يعني وطء المسبية بالرماح إلى غيرها من الأشعار الكثيرة، وإنما يفهم منه العقد بقرينة قوله تعالى: {فانكحوهن بإذن أهلهن} [النساء: 25] لأن الوطء لا يتوقف على إذن الأهل، وكذلك قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء: 3] الآية، لأن العقد هو الذي يختص بالعدد دون الوطء، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بشهود) لأن الشهود لا يكونون على الوطء، ولأنهما حالة العقد مفترقان، وإنما يطلق عليه النكاح لإفضائه إلى الضم كقوله تعالى: {إني أراني أعصر خمرا} [يوسف: 36] وهو عقد مشروع مستحب مندوب إليه، ثبتت شرعيته بالكتاب وهو قوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم} [النور: 32] وقوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} وبالسنة قال صلى الله عليه وسلم: (تنكاحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة) و قال: (النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني) والنصوص في ذلك كثيرة والآثار فيه غزيرة، وعلى شرعيته إجماع الأمة. قال: (النكاح حالة الاعتدال سنة مؤكدة مرغوبة، وحالة التوقان واجب، وحالة الخوف من الجور مكروه) أما الأول فلما تقدم من النصوص، فبعضها أمر وأنه يقتضي الترغيب والتأكيد على فعله، وكذلك الحديث الثاني ناطق بكونه سنة، ثم أكده حيث علق بتركه أمرا محذورا، وأنه من خصائص التأكيد كما في سنة الفجر، ولأنه صلى الله عليه وسلم: واظب عليه مدة عمره وأنه آية التأكيد. وأما الثاني فلأن حالة التوقان يخاف عليه أو يغلب على الظن وقوعه في محرم الزنا، والنكاح يمنعه عن ذلك فكان واجبا، لأن الامتناع عن الحرام فرض واجب. وأما الثالث فلأن النكاح إنما شرع لما فيه من تحصين النفس ومنعها عن الزنا على سبيل الاحتمال وتحصيل الثواب المحتمل بالولد الذي يعبد الله تعالى ويوحده، والذي يخاف الجور والميل يأثم بالجور والميل ويرتكب المنهيات المحرمات فينعدم في حقه المصالح لرجحان هذه المفاسد عليها، وقضيته الحرمة إلا أن النصوص لا تفصل فقلنا بالكراهة في حقه عملا بالشبهين بالقدر الممكن. (وركنه الإيجاب والقبول) لأن العقد يوجد بهما، وركن الشيء ما يوجد به كأركان البيت. قال: (وينعقد بلفظين ماضيين) كقوله: زوجتك، وقول الآخر تزوجت أو قبلت، لأن هذا اللفظ يستعمل للإنشاء شرعا للحاجة ولا خلاف فيه (أو بلفظين أحدهما ماض، والآخر مستقبل، كقوله: زوجني، فيقول: زوجتك) لأن قوله زوجني توكيل، والوكيل يتولى طرفي النكاح على ما نبينه. وروى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة لو قال: جئتك خاطبا ابنتك، أو لتزوجني ابنتك، أو زوجني ابنتك، فقال الأب: قد زوجتك فالنكاح لازم، وليس للخاطب أن لا يقبل، ولا يشبه البيع لأن مبناه على المسامحة والمساهلة، والبيع على المماسكة والمساومة؛ ولو قال لها: أنا أتزوجك، فقالت قد فعلت، جاز ولزم، لأن قوله أتزوجك بمعنى تزوجتك عرفا بدلالة الحال كما في كلمة الشهادة، ولو قال أتزوجني فقال الآخر زوجتك لا ينعقد النكاح لأنه استخبار واستيعاد لا أمر وتوكيل، ولو أراد به التحقيق دون الاستخبار والسوم ينعقد به. قال: (وينعقد بلفظ النكاح والتزويج) لأنهما صريح فيه. قال: (والهبة والصدقة والتمليك والبيع والشراء) لأن هذه الألفاظ تفيد الملك، وأنه سبب لملك المتعة بواسطة ملك الرقبة كما في ملك اليمين والسببية من طرق المجاز. وأما لفظ الإجارة فروى ابن رستم عن محمد أنه لا ينعقد بها، وهو اختيار أبي بكر الرازي، لأن الإجارة لا تفيد ملك المتعة ولأنها تنبئ عن التأقيت، ولا تأقيت في النكاح. وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجوز وهو اختيار الكرخي، قال: لأن الله تعالى سمى المهر أجرا فينعقد بلفظ الإجارة كالإجارة. وعن محمد: لو قال: أوصيت لك بابنتي للحال ينعقد، وإن أوصى بها مطلقا لا ينعقد لأنها توجب الملك معلقا بشرط الموت، والأصل فيه ما قاله أصحابنا: كل لفظ يصح لتمليك الأعيان مطلقا ينعقد به النكاح. وروى ابن رستم عن محمد أنه قال: كل لفظ يكون في الأمة تمليكا للرق فهو نكاح في الحرة. قال: (ولا ينعقد نكاح المسلمين إلا بحضور رجلين، أو رجل وامرأتين، ولا بد في الشهود من صفة الحرية والإسلام، ولا تشترط العدالة) فالشهود شرط لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا نكاح إلا بشهود). وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: (الزانية التي تنكح نفسها بغير بينة) وأما صفة الشهود، قال أصحابنا: كل من ملك القبول بنفسه انعقد العقد بحضوره ومن لا فلا، وهذا صحيح لأن كل واحد من الشهادة والقبول شرط لصحة العقد فجاز اعتبار أحدهما بالآخر، ولا بد فيه من اعتبار الحرية والعقل والبلوغ في الشاهد، لأن العبد والصبي والمجنون ليسوا من أهل الشهادة لما مر في الشهادات ولا يملكون القبول بأنفسهم؛ ولا بد من اعتبار الإسلام في نكاح المسلمين لعدم ولاية الكافر على المسلم؛ ويجوز بشهادة رجل وامرأتين اعتبارا بالشهادة على المال على ما بيناه في الشهادات، وينعقد بحضور الفاسقين، لأن النص لا يفصل ولأنه يملك القبول بنفسه كالعدل، ولأنه غير مسلوب الولاية عن نفسه فلا يسلبها عن غيره لأنه من جنسه، ولأنه تحمل فيجوز، لأن الفسق يؤثر في الشهادة للتهمة وذلك عند الأداء. أما التحمل فأمر مشاهد لا تهمة فيه، وانعقاد النكاح لا يتوقف على شهادة من يثبت بشهادته كمن ظاهره العدالة ولا يعلم باطنه، ولهذا ينعقد بشهادة ابنيهما وابنيها من غيرها، ولا يظهر بشهادتهم عند دعوى القريب لما أن العقد لا يتوقف إلا على الحضور لا على من يثبت بشهادته. قال: (وينعقد بشهادة العميان) لأنهم من أهل الشهادة حتى لو حكم بها حاكم جاز لأنه مجتهد فيه، فإن مالكا يجوز شهادته وأبا يوسف يجيزها إذا تحملها بصيرا، وإذا كان من أهل الشهادة صار كالبصير لأنه يملك القبول بنفسه، والمحدود في القذف إن تاب فهو من أهل الشهادة، حتى لو حكم بشهادته حاكم جاز، وإن لم يتب فهو فاسق وقد مر. قال: (وإذا تزوج مسلم ذمية بشهادة ذميين جاز ولا يظهر عند جحوده) وقال محمد: لا يجوز لأنه لا شهادة للكافر على المسلم، والسماع في النكاح شهادة فصار كأنهم سمعوا كلام المرأة وحدها. ولهما أن العقد يثبت بشهادتهما لو جحدت؛ وإذا جاز أن يثبت بشهادتهما فلأن ينعقد بحضرتهما أولى، ولأن الانعقاد لا يتوقف على سماع من يثبت به العقد لما مر، ولأن سماع الكفار صحيح في حق المسلم حتى لو أسلما بعد ما سمعا ذميين جازت شهادتهما، ولأن الشهادة شرطت في الانعقاد لإثبات الملك إظهارا لخطر المحل لا لوجوب المهر لما بينا وقد وجدت فيثبت الملك، بخلاف ما إذا لم يسمعا كلامه، لأن العقد إنما ينعقد بكلامه والشهادة على العقد شرط.
في المحرمات (ويحرم على الرجل نكاح أمه وجداته وبنته وبنات ولده وأخته وبنتها وبنت أخيه وعمته وخالته وأم امرأته وبنتها إن دخل بها وامرأة أبيه وأجداده وبنيه وبني أولاده والجمع بين الأختين نكاحا ووطئا بملك يمين، ويحرم من الرضاع من ذكرنا) ما يحرم (من النسب). اعلم أن المحرمات بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم: (تسعة أقسام: بالقرابة، وبالصهرية، وبالرضاع، وبالجمع، وبالتقديم، وبتعلق حق الغير به، وبالملك، وبالكفر، وبالطلقات الثلاث. فالمحرمات بالقرابة سبعة أنواع: الأمهات وإن علون، والبنات وإن سفلن، والأخوات من أي جهة كن، والخالات والعمات جميعهن، وبنات الأخ وبنات الأخ وبنات الأخت وإن سلفن فهن محرمات بنص الكتاب نكاحا ووطئا، ودواعيه على التأبيد، قال الله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت} [النساء: 23] نص على التحريم مطلقا فيقتضي حرمة جميع الأفعال في المحل المضاف إليه التحريم إلا فعلا فيه تعظيم وتكريم فإنه خارج عن الإرادة، إما لأنه مأمور به بالنصوص الموجبة لصلة الرحم وبر الوالدين والإحسان بهما، أو لوجوب ذلك عقلا، أو بالإجماع. وما عداهن من القرابات محللات بقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24]. والمحرمات بالصهرية أربعة: أم امرأته وبناتها، فتحرم أمها بنفس العقد على البنت. قال تعالى: {وأمهات نسائكم} [النساء: 23] مطلقا، ولا تحرم البنت حتى يدخل بالأم. قال تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن} [النساء: 23] الآية، وتحرم الربيبة وإن لم تكن في حجر الزوج، وذكر الحجر في الآية خرج مخرج العادة لا للشرط، وكذا بنات بنت المرأة وبنات ابنها لدخولهن تحت اسم الربيبة، وحليلة الابن وابن الابن وابن البنت وإن سفل حرام على الأب دخل الابن بها أو لم يدخل، لقول تعالى: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} [النساء: 23] فلا يدخل فيه حليلة الابن المتبنى، وحليلة الأب والجد من قبل الأب والأم وإن علا حرام على الابن، قال تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} [النساء: 22] وفي كل موضع يحرم بالعقد إنما يحرم بالعقد الصحيح دون الفاسد، لأن مطلق النكاح والزوجة والحليلة إنما ينطلق على الصحيح، واسم الحليلة يتناول الزوجة والمملوكة، غير أن الزوجة تحرم بمجرد العقد، والأمة لا تحرم إلا بالوطء، لأن الفراش قائم مقام الوطء وهو موجود في ملك النكاح دون ملك اليمين، ولهذا لا يجوز أن يجمع بين الأختين بعقد النكاح وإن لم يطأ، ويجوز ذلك في ملك اليمين إذا لم يطأهما. ولو كان له جارية فقال وطئتها حرمت على أبيه وابنه، ولو قال ذلك في جارية الغير لا تحرم أخذا بالظاهر فيهما؛ ولو اشترى جارية من تركة أبيه وسعه وطؤها ما لم يعلم أن الأب وطئها، ولو قصد امرأته ليجامعها وهي نائمة مع بنتها المشتهاة فوقعت يده على البنت فقرصها بشهوة يظن أنها زوجته حرمت عليه امرأته. والمحرمات بالرضاع كل من تحرم بالقرابة والصهرية لقوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخوانكم من الرضاعة} [النساء: 23] وقال عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). والمحرمات بالجمع: لا يحل للرجل أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة لقوله تعالى: {مثنى وثلاث ورباع} [النساء: 3] نص على الأربع فلا يجوز الزيادة عليهن. وروي(أن غيلان الديلمي أسلم وتحته عشر نسوة، فأمره عليه الصلاة والسلام أن يمسك منهن أربعا ويفارق الباقي) ويستوي في ذلك الحرائر والإماء المنكوحات، لأن النص لم يفصل. والجمع بين الإماء ملكا ووطئا حلال وإن كثرن، قال تعالى: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} [المؤمنون: 6] مطلقا من غير حصر خرج عنه الزوجات بما ذكرنا فبقي الإماء على الإطلاق. ولا يجمع العبد بين أكثر من اثنتين لأن الرق منصف فينتصف ملك النكاح أيضا إظهارا لشرف الحرية، ولا يجوز الجمع بين الأختين نكاحا ولا بملك يمين وطئا لقوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} [النساء: 23]. وقال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمعنّ ماءه في رحم أختين) ويجوز أن يجمع بينهما في الملك دون الوطء، لأن المراد بالنص حرمة الوطء إجماعا، فإن كان له أمة قد وطئها فتزوج أختها جاز النكاح لصدوره من أهله وإضافته إلى محله، ولا يطأ الأمة لأن المنكوحة موطوءة حكما، ولا يطأ المنكوحة حتى يحرم الأمة عليه فإذا حرمها وطئ المنكوحة، وإن لم يكن وطئ المملوكة وطئ المنكوحة وحرمت المنكوحة حتى يفارق المنكوحة. قال: (ولو تزوج أختين في عقد واحد فسد نكاحهما) لعدم أولوية جواز نكاح إحداهما (ولو تزوج أختين في عقدتين ولا يدري أيتهما أولى فرّق بينه وبينهما) لأن نكاح إحداهما باطل بيقين، ولا وجه إلى التيقن لعدم الأولوية، ولهما نصف المهر بينهما لجهالة المستحقة فيشتركان فيه، فإن تزوجهما على التعاقب فسد النكاح الأخيرة ويفارقها، وإن علم القاضي بذلك فرّق بينهما (وإذا طلق امرأته لا يجوز أن يتزوج أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدتها) وسواء كان الطلاق بائنا أو رجعيا لبقاء نكاح الأولى من وجه ببقاء العدة والنفقة والسكنى، والفراش القائم في حق ثبوت النسب والمنع من الخروج والبروز والتزوج بزوج آخر، فتثبت الحرمة أخذا بالاحتياط في باب الحرمة، والمعتدة إذا لحقت بدار الحرب مرتدة يحل للزوج نكاح أختها وأربع سواها لسقوط أحكام الإسلام عنها، وعدة أم الولد إذا أعتقها مولاها تمنع نكاح أختها دون الأربع لأن فراشها قائم فيكون جامعا ماءه في حرم أختين وأنه حرام بالحديث، وحرمة الأربعة ورد في النكاح، وقالا: لا يمنع لأن له أن يتزوجها قبل العتق فكذا بعده، لكن إذا عقد عليها لا يطؤها حتى تنقضي العدة. وجوابه أن فراشها قبل العتق ضعيف يقبل النقل إلى غيره بالنكاح وبعده لا فافترقا، والعقد قائم مقام الوطء حتى يثبت النسب منه فلا يجوز. قال: (ولا يجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها) للحديث المشهور، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على بنت أخيها ولا على بنت أختها، فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد قطعتم أرحامهن) ويجوز أن يجمع بين امرأة وابنة زوج كان لها من قبله لأنه لا قرابة بينهما. (و) المحرمات بالتقديم (لا يجوز نكاح الأمة على الحرة ولا معها ولا في عدتها، ويجوز نكاح الحرة والأمة على الأمة ومعها في عدتها) لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تنكح الأمة على الحرة وتنكح الحرة عليها) وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز نكاح الأمة في عدة الحرة من طلاق بائن لأنه ليس بنكاح عليها حتى لو حلف لا يتزوج عليها لا يحنث بهذا. ولأبي حنيفة أن نكاح الحرة قائم من وجه على ما بينا، واليمين مبناها على المقصود وهو عدم المزاحمة في القسم وقد وجد؛ ولو تزوج في عقد واحد أربعا من الإماء وخمسا من الحرائر جاز نكاح الإماء خاصة، لأنه لا يجوز نكاح واحدة من الحرائر لعدم الأولوية فيبطل نكاحهن فلم توجد المزاحمة. (ويجوز للحر أن يتزوج أربعا من الإماء) لأن قوله تعالى: {ورباع} [النساء: 3] لا يفصل (ويجوز أن يتزوج أمة مع القدرة على الحرة) لأن النصوص لا تفصل، وهي قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24] وقوله سبحانه: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء: 3] وغير ذلك. (و) المحرمات بتعلق حق الغير ف (لا يجوز أن يتزوج زوجة الغير ولا معتدته) قال عليه الصلاة والسلام: (ملعون من سقى ماءه زرع غيره) ولأن ذلك يفضي إلى اشتباه الأنساب، ولهذا لم يشرع الجمع بين الزوجين في امرأة واحدة في دين من الأديان. قال: (ولا يتزوج حاملا من غيره) لما ذكرنا (إلا الزانية، فإن فعل لا يطؤها حتى تضع) وقال أبو يوسف: النكاح فاسد لما سبق من الحديث، ولأنه حمل محترم حتى لا يجوز إسقاطه. ولهما أن الامتناع لئلا يسقي ماءه زرع غيره في ثابت النسب لحق صاحب الماء ولا حرمة للزاني فدخلت تحت قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم (فإن كان الحمل ثابت النسب كالحامل من السبي وحمل أم الولد من مولاها ونحوه فالنكاح فاسد لما بينا. (و) المحرمات بالملك ف (لا يجوز أن يتزوج أمته ولا المرأة عبدها) وملك بعض العبد في هذا كملك كله، وكذا حق الملك كمملوك المكاتب والمأذون، لأن ملك اليمين أقوى من ملك النكاح فلا فائدة في إثبات الأضعف مع ثبوت الأقوى، ولأن ملك النكاح يوجب لكل واحد من الزوجين على الآخر حقوقا، والرق ينافي ذلك. (و) المحرمات بالكفر ف (لا يجوز نكاح المجوسيات والوثنيات ولا وطؤهن بملك يمين) قال تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [البقرة: 221] وقال صلى الله عليه وسلم: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم) (ويجوز تزويج الكتابيات) لقوله تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} [المائدة: 5] والذمية والحربية سواء لإطلاق النص، والأمة والحرة سواء لإطلاق المقتضى. (و) يجوز نكاح (الصابئيات) عند أبي حنيفة خلافا لهما، وعلى هذا حل ذبائحهم، وهذا بناء على اشتباه مذهبهم، فعنده هم أهل كتاب يعظمون الكواكب ولا يعبدونها فصاروا كالكتابيات، وعندهما يعبدون الكواكب وليسوا أهل كتاب. والمحرمات بالطلقات الثلاث لقوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} [البقرة: 230] وعليه الإجماع. قال: (والزنا يوجب حرمة المصاهرة) فمن زنى بامرأة أو وطئها بشبهة حرمت عليه أصولها وفروعها، وتحرم الموطوءة على أصول الواطئ وفروعه (وكذا المس بشهوة من الجانبين والنظر إلى الفرج من الجانبين أيضا) والمعتبر النظر إلى فرجها الباطن دون الظاهر. روي ذلك عن أبي يوسف وهو الصحيح. وحكى الطحاوي إجماع السلف في أن التقبيل واللمس عن شهوة يوجب حرمة المصاهرة، والأصل فيه قوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} [النساء: 22] والحمل على الوطء أولى لما بينا أن النكاح حقيقة هو الوطء، أو لأنه أعم فكان الحمل عليه أولى وأعم فائدة، فيصير معنى الآية والله أعلم: ولا تطئوا ما وطئ آباؤكم مطلقا، فيدخل فيه النكاح والسفاح، ولقوله عليه الصلاة والسلام: (من زنى بامرأة حرمت عليه أمها وبنتها) وقال عليه الصلاة والسلام: (من نظر إلى فرج امرأة بشهوة أو لمسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها وحرمت على ابنه وأبيه) وإذا ثبت هذا الحكم في موطوءة الأب ثبت في موطوءة الابن وفي وطء أم امرأته وسائر ما يثبت بحرمة المصاهرة بالنكاح لأن أحدا لم يفصل بينهما، ولأن الوطء سبب للجزئية بواسطة الولد، ولهذا يضاف إليها كما يضاف إليه. والاستمتاع بالجزء حرام، والمس والنظر داع إلى الوطء فيقام مقامه احتياطا للحرمة. وكان الشيخ أبو الحسن الكرخي يقول: إن المراد من قوله: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم} الوطء دون العقد لأنه حقيقة في الوطء، ولم يرد به العقد لاستحالة كون اللفظ الواحد حقيقة ومجازا في حالة واحدة، والتحريم بالعقد ثبت بغير هذه الآية. وحد الشهوة أن تنتشر آلته بالنظر والمس، وإن كانت منتشرة فتزداد شدة، والمجبوب والعنين يتحرك قلبه بالاشتهاء، أو يزداد اشتهاء؛ ولو مسها وعليه ثوب إن منع وصول حرارتها إلى يده لا تثبت الحرمة، وإن لم تمنع تثبت؛ ولو أخذ يدها ليقبلها بشهوة فلم يفعل حرمت على ابنه؛ ولو مس شعر امرأة بشهوة حرمت عليه أمها وبنتها لأنه من أجزاء بدنها. قال أبو حنيفة: إذا جامع صغيرة لا يجامع مثلها فأفضاها لا تحرم عليه أمها. وقال أبو يوسف: تحرم، ولو كانت ممن يجامع مثلها حرمت عليه أمها بالإجماع، لأبي يوسف أنه وطئ في قُبل فترحم كوطء الكبيرة. ولهما أنه ليس بسبب للولد فصار كاللواطة، أما الكبيرة يحتمل العلوق. قال: (ومن جمع بين امرأتين إحداهما لا يحل له نكاحها صح نكاح الأخرى) معناه: إذا تزوجهما في عقد واحد، لأنه لا مانع من نكاح الأخرى لاختصاص المبطل بتلك. قال: (ويجوز أن يتزوج المحرم حالة الإحرام) لأن النبي عليه الصلاة والسلام تزوج ميمونة وهو محرم. والمحظور الوطء ودواعيه، لا العقد، وهو محمل ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن ينكح المحرم. قال: (ونكاح المتعة والنكاح المؤقت باطل) أما المتعة فلقوله تعالى: {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} [المؤمنون: 7] وهذه ليست مملوكة ولا زوجة. أما المملوكة فظاهر، وأما الزوجة فلعدم أحكام الزوجية من الإرث وانقطاع الحل بغير طلاق ولا مانع، وقد صح عن علي رضي الله عنه) أن النبي عليه الصلاة والسلام حرم يوم خيبر متعة النساء ولحوم الحمر الأهلية) وما روي في إباحتها ثبت نسخه بإجماع الصحابة، وصح أن ابن عباس رجع إلى قولهم. وأما النكاح المؤقت فلأنه أتى بمعنى المتعة والعبرة للمعاني، وسواء طالت المدة أو قصرت، لأن التأقيت هو المبطل وهو المغلب لجهة المتعة. وصورة نكاح المتعة أن يقول الرجل لامرأة: متعيني نفسك بكذا من الدراهم مدة كذا، فتقول له: متعتك نفسي، أويقول: أتمتع بك، ولا بد من لفظ التمتع فيه. وأما المؤقت فأن يتزوجها بشهادة شاهدين مدة معلومة. وقال زفر: النكاح المؤقت صحيح ويبطل التأقيت، لأن النكاح لا يبطل بالشرط الفاسد، وجوابه ما مر.
(وعبارة النساء معتبرة في النكاح حتى لو زوجت الحرة العاقلة البالغة نفسها جاز، وكذلك لو زوجت غيرها بالولاية أو الوكالة؛ وكذا إذا وكلت غيرها في تزويجها أو زوجها غيرها فأجازت) وهذا قول أبي حنيفة وزفر والحسن، وظاهر الرواية عن أبي يوسف. وقال محمد: لا يجوز إلا بإجازة الولي، فإن ماتا قبلها لا يتوارثان ولا يقع طلاقه ولا ظهاره ووطؤه حرام، فإن امتنع الولي من الإجازة ذكر الطحاوي عن محمد يجدد القاضي العقد بينهما. وذكر هشام عن محمد فإن لم يجزه الولي أجيزه أنا، وكان يومئذ قاضيا فصار عنه روايتان. وروي عنه أنه رجع إلى قول أبي حنيفة قبل موته بسبعة أيام. وحكى الفقيه أبو جعفر الهندواني: أن امرأة جاءت إلى محمد قبل موته بثلاثة أيام وقالت: إن لي وليا وهو لا يزوجني إلا بعد أن يأخذ مني مالا كثيرا، فقال لها محمد: اذهبي فزوجي نفسك، وهذا يؤيد ما روي من رجوعه. وعن أبي يوسف في غير رواية الأصول مثل قول محمد الأول. وفي رواية إن زوجت نفسها من كفء لا يتوقف، وإن كان من غير كفء يتوقف على إجازة الولي. وجه عدم الجواز ما روت عائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل) وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا نكاح إلا بولي) ولأنها كانت موليا عليها قبل البلوغ في حق العقد والنفاذ لعدم رأيها، فلو زال إنما يزول بما حدث لها من الرأي والعقل بالبلوغ، وإنما حدث لها رأي وعقل ناقص، ومن لم يحدث له رأي أصلا كمن بلغ مجنونا لا تزول عنه الولاية أصلا، ومن حدث له عقل كامل ورأي وافر كالرجل تزول ولايته أصلا، فإذا حدث الناقص فكأنه حدث من وجه دون وجه فثبتت لها إحدى الولايتين وهو الانعقاد دون النفاذ عملا بالشبهين. ووجه الفسخ إذا لم يجز الولي أن النكح إلى الأولياء بالحديث فيتوقف على إجازته ويرتد برده كما إذا عقد وتوقف على إجازتها، فإذا بطل يجدد القاضي النكاح. ووجه رواية هشام أنه عقد صدر من المالك وتوقف على إجازة صاحب الحق فلا ينفسخ برده كالراهن إذا باع الرهن ورده المرتهن فإنه لا ينفسخ البيع حتى لو صبر المشتري إلى حين انفكاك الرهن نفذ، وإذا بقي العقد أجازه القاضي إن امتنع الولي لظلمه بخلاف ما ذكر من المسألة لأن المرأة هي المالكة فتبطل بردها كما إذا باع المرتهن ورد الراهن. وجه قول أبي حنيفة قوله تعالى: {حتى تنكح زوجا غيره} [البقرة: 230] وقال تعالى: {فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف} [البقرة: 234] وفي آية أخرى {من معروف} [البقرة: 240] أضاف النكاح والفعل إليهن، وذلك يدل على صحة عبارتهن ونفاذها لأنه أضافه إليهن على سبيل الاستقلال إذ لم يذكر معها غيرها، وهي إذا زوجت نفسها من كفء بمهر المثل فقد فعلت في نفسها بالمعروف فلا جناح على الأولياء في ذلك. وروى ابن عباس) أن فتاة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (فقالت: يا نبي الله إن أبي زوجني من ابن أخ له ليرفع خسيسته وأنا له كارهة، فقال لها: أجيزي ما صنع أبوك، فقالت: لا رغبة لي فيما صنع أبي، قال: فاذهبي فانكحي من شئت، فقالت: لا رغبة لي عما صنع أبي يا رسول الله ولكني أردت أن أعلّم النساء أن ليس للآباء من أمور بناتهن شيء) والاستدلال به من وجوه: أحدها قوله عليه الصلاة والسلام: (فانكحي من شئت). الثاني قولها ذلك ولم ينكر عليها فعلم أنه ثابت إذ لو لم يكن ثابتا لما سكت عنه. الثالث قوله: (أجيزي ما صنع أبوك) يدل على أن عقده غير نافذ عليها، وفيه دليل لأصحابنا على أن العقد يتوقف أيضا. وفي البخاري(أن الخنساء بنت جزام أنكحها أبوها وهي كارهة فرده النبي عليه الصلاة والسلام) وروي أن امرأة زوجت بنتها برضاها، فجاء الأولياء وخاصموها إلى علي رضي الله عنه، فأجاز النكاح. وهذا دليل الانعقاد بعبارة النساء، وأنه أجاز النكاح بغير ولي لأنهم كانوا غائبين لأنها تصرفت في خالص حقها ولا ضرر فيه لغيرها، فينفذ كتصرفها في مالها والولاية في النكاح أسرع ثبوتا منها في المال، ولهذا يثبت لغير الأب والجد ولا يثبت لهم في المال ولأن النكاح خالص حقها حتى يجبر الولي عليه عند طلبها وبذله لها، وهي أهل لاستيفاء حقوقها، إلا أن الكفاءة حق الأولياء فلا تقدر على إسقاط حقهم. وأما ما ذكر من الأحاديث فمعارضة بما روينا فإما أن يرجع إلى القياس وهو لنا على المال والرجل أو يوفق بين الحديثين فيحمل ما روينا على الحرة العاقلة البالغة، وما رويتموه على الأمة توفيقا، كيف وقد ورد في بعض الروايات (أيما أمة نكحت نفسها) فيحمل المطلق على المقيد أو يرجع والترجيح معنا، لأن ما ذكرناه سالم عن الطعن وما رواه مطعون فيه، فقد حكي عن أبي العباس المروزي قال: سمعت يحيى بن معين يقول: ثلاثة أحاديث لم تثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر حرام، ومن مسّ ذكره فليتوضأ، ولا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) ووافقه على ذلك أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه، على أنا نقول: المرأة ولية نفسها فلا يكون نكاحا بلا ولي فلم قلتم إنها ليست وليا ؟ ولو قلتم ذلك استغنيتم عن الحديث، وكذا الحديث الآخر فإنه من رواية سليمان بن يسار عن الزهري وهو ضعيف ضعفه البخاري وأسقط روايته. وروي أن مالكا وابن جريج سألا الزهري عن هذا الحديث فلم يعرفه، والراوي إذا أنكر الخبر دل على بطلانه كالأصول مع الفروع، ولأن من مذهب عائشة رضي الله عنها جواز النكاح بعبارة النساء، فإنها زوجت بنت أخيها عبد الرحمن حين غاب بالشام، دل ذلك على عدم صحة الحديث وروايتها له أو على نسخه أو على رجحان ما ذكرنا، وقوله الحادث لها رأي ناقص، قلنا المعتبر في باب الولاية مطلق العقل والبلوغ دون الزيادة والنقصان، فإن الناس يتفاوتون في الرأي والعقل تفاوتا فاحشا، ولا اعتبار به في باب الولاية، فإن كامل العقل والرأي ولايته على نفسه وماله كولاية ناقصهما، وكم من النساء من يكون أوفر عقلا وأشد رأيا من كثير من الرجال، ولأن في اعتبار ذلك حرجا عظيما وهو حرج التمييز بين الناس، فعلم أن المعتبر أصل البلوغ والعقل وقد وجدا في المرأة، فيترتب عليهما ما يترتب عليهما في الرجل قياسا على المال. قال: (ولا إجبار على البكر البالغة في النكاح) لقوله عليه الصلاة والسلام: (البكر تستأمر في نفسها فإن صمتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها) وقال عليه الصلاة والسلام: (شاوروا النساء في أبضاعهن)، قالت عائشة: يا رسول الله إن البكر لتستحي، قال: ( إذنها صماتها) (والسنة للولي أن يستأمر البكر قبل النكاح ويذكر لها الزوج فيقول: إن فلانا يخطبك أو يذكرك، فإذا سكتت فقد رضيت) لما روينا، فإذا زوجها من غير استئمار فقد أخطأ السنة، فقد صح) أنه صلى الله عليه وسلم: (لما أراد أن يزوج فاطمة من علي رضي الله عنهما دنا إلى خدرها فقال: إن عليا يذكرك ثم خرج فزوجها) (ولو ضحكت فهو إذن) لأنه دليل الرضا، إلا إذا كان على وجه الاستهزاء (ولو بكت) فيه روايتان لأنه يكون عن سرور وعن حزن، والمختار. (إن كان بغير صوت فهو رضا) ويكون بكاء على فراق الأهل وكذا لو زوجها بغير إذنها ثم بلغها، يعتبر السكوت كما ذكرنا والبلوغ إليها أن يرسل إليها وليها رسولا يخبرها بذلك عدلا كان أو غير عدل، فإن أخبرها فضولي فلا بد من العدد أو العدالة، لأنه خبر يشبه الشهادة من وجه فيشترط أحد وصفي الشهادة، وعندهما لا يشترط ذلك لأنه خبر كسائر الأخبار، وإن قال الولي: أزوجك من فلان أو فلان فسكتت فأيهما زوجها جاز، ولو سمى جماعة إن كانوا يحصون فهو رضا، وإلا لا يكون رضا؛ ولو استأمرها فقالت غيره أحب إلي منه لا يكون إذنا، ولو قالت ذلك بعد العقد يكون إذنا لأنه كلام يحتمل الإذن وعدمه فلا نثبت الإذن قبل العقد بالشك ولا نبطل العقد بالشك. (ولو استأذنها غير الولي فلا بد من القول) لأن السكوت إنما جعل رضا عند الحاجة وهو استئمار الولي وعجزها عن المباشرة فلا يقاس عليه عدم الحاجة وهو من لا يملك العقد ولا التفات إلى كلامه. قال: (وإذن الثيب بالقول) قال عليه الصلاة والسلام: (الثيب تستأمر) أي يطلب أمرها والأمر بالقول. وقال في حق البكر: (تستأذن) أي يطلب الإذن منها، والإذن والرضا يكون بالسكوت. وقال عليه الصلاة والسلام: (والثيب يعرب عنها لسانها) ولأن السكوت إنما جعل إذنا لمكان الحياء المانع من النطق المختص بالأبكار، ويكون فيهن أكثر فلا يقاس عليها الثيب. قال: (وينبغي أن يذكر لها الزوج بما تعرفه) لعدم تحقق الرضا بالمجهول. وقال بعضهم: يشترط تسمية قدر الصداق أيضا لاختلاف الرغبات باختلافه. قال: (فإن زالت بكارتها بوثبة أو جراحة أو تعنيس أو حيض فهي بكر) لأنها في حكم الأبكار حتى تدخل تحت الوصية لهم بالإجماع ومصيبها أول مصيب (وكذلك إن زالت بزنا) عند أبي حنيفة، وقالا: تزوج كما تزوج الثيب لأن مصيبها عائد إليها إذ هو من التثويب وهو العود مرة بعد أخرى، وله أنه لو اشترط نطقها فإن لم تنطق تفوتها مصلحة النكاح، وإن نطقت والناس يعرفونها بكرا فتتضرر باشتهار الزنا عنها فيكون حياؤها أكثر فتتضرر على كل حال، فوجب أن لا يشترط دفعا للضرر عنها حتى لو كانت مشتهرة بذلك بأن أقيم عليها الحد أو اعتادته وتكرر منها، أو قضي عليها بالعدة تستنطق بالإجماع لزوال الحياء وعدم التضرر بالنطق؛ ولو مات زوج البكر أو طلقها قبل الدخول تزوج كالأبكار لبقاء البكارة والحياء. (ولو قال الزوج: بلغك النكاح فسكت، فقال: بل رددت فالقول قولها) لأنها منكرة تملك بضعها والبينة بينته لأنه يدعيه (ولا يمين عليها) عند أبي حنيفة خلافا لهما وقد مر في الدعوى، ولو ادعت رد النكاح حين أدركت وادعى الزوج السكوت فالقول قوله لأنه منكر زوال ملكه عنها؛ وإن زوجت نفسها وزوجها الولي برضاها فأيهما قالت هو الأول صح لصحة إقرارها على نفسها دون إقرار الأب؛ وإن قالت لا أدري لم يثبت واحد منهما لعدم إمكان الجمع وعدم أولوية أحدهما؛ ولو تزوجها على أنها بكر فوجدها ثيبا يجب جميع المهر لأن البكارة لا تصير مستحقة بالنكاح؛ ولو زوجها وليها فبلغها فردت، ثم قال لها إن جماعة يخطبونك فقالت أنا راضية بما تفعل فزوجها الأول لا يجوز، لأن قولها أنا راضية بما تفعل ينصرف إلى غيره دلالة؛ ومثله لو قال لرجل كرهت صحبة فلانة فطلقتها فزوجني امرأة، فزوجه تلك المرأة لا يجوز؛ وكذلك لو باع عبده ثم أمر إنسانا أن يشتري له عبدا فاشترى ذلك العبد لا يجوز. قال: (ويجوز للولي إنكاح الصغير والصغيرة والمجنونة) لقوله عليه الصلاة والسلام: (ألا لا يزوج النساء إلا الأولياء ولا يزوجن إلا من الأكفاء) وقال عليه الصلاة والسلام: (النكاح إلى العصبات) والبالغات خرجن بما سبق من الأحاديث فبقي الصغار) والنبي عليه الصلاة والسلام تزوج عائشة رضي الله عنها وهي بنت سبع سنين وبنى بها وهي بنت تسع. وعلي رضي الله عنه زوج ابنته أم كلثوم من عمر وهي صغيرة، ولأن النكاح يتضمن المصالح وذلك يكون بين المتكافئين والكفء لا يتفق في كل وقت، فمست الحاجة إلى إثبات الولاية على الصغار تحصيلا للمصلحة وإعدادا للكفء إلى وقت الحاجة، والقرابة موجبة للنظر والشفقة فينتظم الجميع، إلا أن شفقة الأب والجد أكثر فيكون عقدهما لازما لا خيار فيه، وشفقة غيرهما لمن قصرت عنهما قلنا بالانعقاد وثبوت الخيار عند البلوغ، فإن رآه غير مصلحة فسخه. (ثم إن كان المزوج أبا أو جدا فلا خيار لهما بعد البلوغ) لوفور شفقتهما وشدة حرصهما على نفعهم فكأنهم باشروه بأنفسهم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خير عائشة رضي الله عنها حين بلغت (وإن زوجهما غيرهما فلهما الخيار) إن شاءا أقاما على النكاح، وإن شاءا فسخا. وقال أبو يوسف: لا خيار لهما كالأب والجد. وجوابه ما ذكرنا من قصور شفقتهم عن شفقة الأب والجد، وذلك مظنة وقوع الخلل في المقصود من النكاح فيثبت الخيار لدفع الخلل لو كان، ثم سكوت البكر عند بلوغها رضا إذا علمت بالنكاح، ولا يمتد إلى آخر المجلس كما في الابتداء، ولو بلغت بعد الدخول فلا بد من القول والتصريح بالرضا أو بالرد لأنها ثيب كما في الابتداء وكذا الغلام، ولا بد في الفسخ من القضاء لأن العقد، قد تم وثبتت أحكامه فلا يرتفع إلا برفع من له ولاية وهو القاضي أو بتراضيهما، ولأنه لرفع ضرر خفي وهو وقوع الخلل في العقد فيكون إلزاما فاحتاج إلى القضاء، ويشمل الذكر والأنثى لشمول المعنى لهما، ويشترط علمهما بالنكاح دون الحكم لأن العقد ينفرد به الولي فيعذران في الجهل. أما الحكم فالدار دار الإسلام فلا عذر في الجهل، بخلاف خيار العتق حيث لا يحتاج إلى القضاء لأنه دفع ضرر ظاهر وهو زيادة الملك ويقتصر على الأنثى، لأن زيادة الملك في حقها دونه ويمتد إلى آخر المجلس لأنه جواب التمليك قال عليه الصلاة والسلام: (ملكت بضعك فاختاري) وتعذر في الجهل بحكم الخيار لأنها مشغولة بخدمة المولى فلا تتفرغ للعلم، وإذا اختارت الفسخ في خيار البلوغ ففرق القاضي فهي فرقة بغير طلاق، ولأنه فسخ ثبت ضرورة دفع اللزوم فلا يكون طلاقا ولهذا يثبت لها ولا مهر لها إن كان قبل الدخول لأن المراد من الفسخ رفع مؤونات العقد، وإن كان بعد الدخول فلها المسمى لأنه استوفى المفقود عليه، وكذا لو اختار الغلام قبل الدخول لا مهر عليه، وليس لنا فرقة جاءت من قبل الزوج ولا مهر عليه إلا هذه. والوجه فيه أنه لو وجب المهر لما كان في الخيار فائدة لأنه قادر على الفرقة بالطلاق، فلما ثبت الخيار علمنا أنه ثبت لفائدة وهي سقوط المهر؛ ولو مات أحدهما قبل البلوغ أو بعده قبل التفريق ورثه الآخر لصحة العقد وثبوت الملك به وقد انتهى بالموت. (ولا خيار لأحد الزوجين في عيب إلا في الجب والعنة والخصاء) على ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. قال: (والولي العصبة) لقوله عليه الصلاة والسلام: (النكاح إلى العصبات) وهم (على ترتيبهم في الإرث والحجب ثم مولى العتاقة) لأنه آخر العصبات على ما عرف في الفرائض. قال: (وللأم وأقاربها التزويج، ثم مولى الموالاة، ثم القاضي) أما الأم وأقاربها فمذهب أبي حنيفة، وروي عنه وهو قولهما ليس لهم ذلك لما روينا، ولأن الولاية تثبت دفعا للعار بعدم الكفء. وذلك إلى العصبات لأنهم هم الذين يعيرون بذلك. ولأبي حنيفة أن الأصل في هذه الولاية إنما هو القرابة الداعية إلى الشفقة والنظر في حق المولى عليه، وذلك يتحقق في كل من هو مختص بالقرابة. وشفقة الأم أكثر من شفقة غيرها من الأباعد من أبناء الأعمام، وكذلك شفقة الجد لأم والأخوال، ولأن الأم أحد الأبوين فتثبت الولاية لها كالآخر، وهو مروي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما. والأصل أن كل قرابة يتعلق بها الوارث يتعلق بها ثبوت الولاية لأنها داعية إلى الشفقة والنظر كالعصبات إلا أنهم تأخروا عن العصبات لضعف الرأي وبعد القرابة كما في الإرث، وأما الحديث فإنه يقتضي النكاح إلى العصبات عند وجودهم، أما عند عدمهم فالحديث ساكت عنه فنقول: ينتقل إلى ما هو في معنى العصبات في الشفقة فلا يكون حجة علينا بل لنا، وتمامه يعرف في الفرائض في فصل ذوي الأرحام. وأما مولى العتاقة فلأنه وارث مؤخر عن ذوي الأرحام فكذا في الولاية ولأنه عصبة على ما عرف في الفرائض. وأما القاضي فلقوله عليه الصلاة والسلام: (السلطان ولي من لا ولي له). قال: (ولا ولاية لعبد ولا صغير ولا مجنون ولا كافر على مسلمة) أما العبد فلأنه لا ولاية له على نفسه فكيف يلي غيره ؟ وكذا الصبي والمجنون لأنهما لا نظر لهما ولا خبرة وهذه ولاية نظرية وأما الكافر فإن الولاية تقتضي نفوذ قول الولي على المولى عليه، ولا نفاذ لقول الكافر على المسلم كما في الشهادة، قال الله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} [النساء: 141] وثبتت له الولاية على ولده الكافر، قال تعالى: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} [الأنفال: 73] ولهذا تقبل شهادة بعضهم على بعض. قال: (وابن المجنونة يقدم على أبيها) في ولاية النكاح. وقال محمد: يقدم الأب لأنه أشفق ولهما أن التقديم هنا بالعصوبة والابن مقدم في العصوبة كما في الإرث. قال: (وإذا غاب الولي الأقرب غيبة منقطعة لا ينتظر الكفء الخاطب حضوره زوجها الأبعد) واختلفوا في الغيبة المنقطعة، فعن أبي يوسف مسيرة شهر، وعن محمد من الكوفة إلى الري خمس عشرة مرحلة، وعنه من بغداد إلى الري عشرون مرحلة. وفصل ابن شجاع ذلك فقال: إذا كان في موضع لا تصل إليه القوافل والرسل في السنة إلا مرة واحدة فهي غيبة منقطعة. قال القدوري: وهذا صحيح لأن الخاطب لا ينتظر سنة ولا يعلم هل يجيب الولي أم لا، وقد ينتظر بعض السنة فلذلك قدره بهذا. وقال زفر: إذا كان في مكان لا يدري أين هو فهو غيبة منقطعة وهذا حسن لأنه إذا كان لا يدري أين هو لا يمكن استطلاع رأيه فتفوت المصلحة، وقيل ثلاثة أيام، والمختار ما ذكره في الكتاب لأنه تفوت المصلحة باستطلاع رأيه وانتظاره. وقال زفر: لا يزوجها الأبعد لأن ولاية الأقرب قائمة حتى لو زوجها حيث هو جاز. ولنا أنه لو لم ينتقل إلى الأبعد تتضرر الصغيرة لأنه يفوت الكفء الحاضر وقد لا يتفق الكفء مرة أخرى فوجب أن ينتقل دفعا لهذا الضرر، ولأن الغائب عاجز عن تدبير مصالح النكاح فيفوت مقصود الولاية لأنها نظرية ولا نظر في ذلك. وأما إذا زوجها ففيه روايتان، قيل لا يجوز لانقطاع ولايته، وقيل يجوز لظهور الانتفاع برأيه، ولأنا إنما أسقطنا ولايته دفعا للضرر عن الصغيرة، فإذا زوجها ارتفع الضرر فعادت الولاية بعد ارتفاعها، ولا ينتقل إلى السلطان لأنه ولي من لا ولي له بالحديث. وهذه لها أولياء إذ الكلام فيه. قال: (ولو زوجها وليان فالأول أولى) لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أنكح الوليان فالأول أولى) ولأنه لما سبق فقد صح فلا يجوز نكاح الثاني، وهذا لأن سبب الولاية القرابة وهي لا تتجزى، والحكم الثابت به أيضا لا يتجزى فصار كل واحد منهما كالمنفرد فأيهما عقد جاز كالأمان (وإن كانا معا بطلا) لتعذر الجمع وعدم أولوية أحدهما. قال: (ويجوز للأب والجد أن يزوج ابنه بأكثر من مهر المثل وابنته بأقل ومن غير كفء، ولا يجوز ذلك لغيرهما) وقالا: لا يجوز ذلك للأب والجد أيضا إلا أن يكون نقصانا يتغابن في مثله، ولا ينعقد العقد عندهما لأن هذه الولاية نظرية ولا نظر في ذلك، ولهذا لا يجوز ذلك في المال. ولأبي حنيفة أن النكاح عقد عمر، وهو يشتمل على مقاصد وأغراض ومصالح باطنه، فالظاهر أن الأب مع وفور شفقته وكمال رأيه ما أقدم على هذا النقص إلا لمصلحة تربو وتزيد عليه هي أنفع من القدر الفائت من المال والكفاءة، بخلاف المال لأن المقصود المالية لا غير، وبخلاف غير الأب والجد لأنهم أنقص شفقة، وبخلاف ما إذا تزوج أمة الصغيرة لعدم الجابر في حقه لأن مقاصد النكاح لم تحصل للصغير، وبخلاف ما إذا تزوجت المرأة وقصرت في مهرها حيث للأولياء الاعتراض عليها عنده حتى يتم لها مهر مثلها أو يفارقها لأنها سريعة الانخداع ضعيفة الرأي، فتفعل ذلك متابعة للهوى لا لتحصيل المقاصد، لأن النساء قلما ينظرن في عواقب الأمور ومصالحها. وقال أبو يوسف ومحمد: لا اعتراض عليها لأن المهر حقها، ولهذا كان لها أن تهبه فلأن تنقصه أولى. ولأبي حنيفة أن المهر إلى عشرة دراهم حق الشرع فلا يجوز التنقيص منه شرعا حتى لو سمى أقل من عشرة فلها عشرة وإلى مهر مثلها حق الأولياء لأنهم يعيرون بذلك فلهم مخاصمتها إلى تمامه، والاستيفاء حقها فإن شاءت قبضته وإن شاءت وهبته. قال: (والواحد يتولى طرفي العقد وليا كان أو وكيلا، أو وليا ووكيلا، أو أصيلا ووكيلا، أو وليا وأصيلا) أما الولي من الجانبين كمن زوج ابن ابنه بنت ابن له آخر أو بنت أخيه ابن أخ له آخر أو أمته عبده ونحو ذلك والوكيل ظاهر. وأما الولي والوكيل بأن وكله رجل أن يزوجه بنته الصغيرة، أو وكلته امرأة أن يزوجها من ابنه الصغير. وأما الوكيل والأصيل بأن وكلته امرأة أن يزوجها من نفسه. وأما الولي والأصيل أن يزوج ابنة عمه الصغيرة من نفسه. وصورته أن يقول: اشهدوا أني زوجت فلانة من فلان، أو فلانة مني، أو تزوجت فلانة، ولا يحتاج إلى القبول لأنه تضمن الشطرين. وقال زفر: لا يجوز ذلك لأنه لا يمكن أن يكون الواحد مملكا ممتلكا كالبيع. ولنا أنه معبر وسفير والمانع من ذلك في البيع رجوع الحقوق إلى العاقد فيجري فيه التمانع، لأنه لا يمكن أن يكون الواحد مطالِبا ومطالَبا في حق واحد، وهنا الحقوق لا ترجع إليه فلا تمانع. قال: (وينعقد نكاح الفضولي موقوفا كالبيع إذا كان من جانب واحد، أما من جانبين أو فضوليا من جانب أصيلا من جانب فلا) أما الفضولي من جانب بأن يزوج امرأة بغير أمرها رجلا وقبل الرجل، أو رجلا بغير أمره امرأة فقبلت، فإنه ينعقد ويتوقف على إجازة الغائب. وأما من الجانبين فهو أن يقول: اشهدوا أني زوجت فلانة من فلان وهما غائبان بغير أمرهما فهذا لا ينعقد. وقال أبو يوسف: ينعقد موقوفا على إجازتهما، والفضولي من جانب أصيل من جانب بأن يقول الرجل: اشهدوا أني قد تزوجت فلانة وهي غائبة ولم يقبل عنها أحد، فهذا أيضا على الخلاف؛ ولو جرى بين فضوليين جاز باتفاقنا، وذكرنا في البيوع الدليل على انعقاد تصرفات الفضولي. لأبي يوسف في الخلافية أنه لو كان وكيلا انعقد ونفذ، فإذا كان فضوليا ينعقد ويقف. ولهما أن هذا شطر العقد فلا يتوقف على ما وراء المجلس كما إذا كان أصيلا، بخلاف الوكيل لأنه معبر فينقل كلامه إليهما، وكلام الفضوليين عقد تام فلا يقاس عليه، ولو زوج الأب ابنه الكبير فجنّ قبل الإجازة فأجازه الأب جاز ونفذ لثبوت الولاية عليه وقت الإجازة.
(والكفاءة تعتبر في النكاح) وتعتبر في الرجال للنساء للزومه في حقهن، ولأن الشريفة تعيّر ويغيطها كونها مستفرشة للخسيس، ولا كذلك الرجل لأنه هو المستفرش. والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: (ألا لا يزوج النساء إلا الأولياء، ولا يزوجن إلا من الأكفاء) ولأن المصالح إنما تتم بين المتكافئين غالبا فيشترط ليتم المقصود منه. قال وتعتبر (في النسب) فقريش بعضهم أكفاء لبعض لا يكافئهم غيرهم من العرب، والعرب بعضهم أكفاء لبعض لا يكافئهم الموالي، قال عليه الصلاة والسلام: (قريش بعضهم أكفاء لبعض، والعرب بعضهم أكفاء لبعض) وقال عليه الصلاة والسلام: (والموالي بعضهم أكفاء لبعض) ولا يعتبر التفاضل في قريش وإن كان أفضلهم بنو هاشم لما روينا، ولأن النبي عليه الصلاة والسلام زوج ابنته عثمان وكان عبشميا أمويا، وعلي رضي الله عنه زوج ابنته عمر رضي الله عنه وكان عدويا. قال محمد: إلا أن يكون نسبا مشهورا كبيت الخلافة تعظيما لها. قال: (وفي الدين والتقوى) حتى إن بنت الرجل الصالح لو تزوجت فاسقا كان للأولياء الرد لأنه من أفجر الأشياء وأنها تعيّر بذلك، وقوله عليه الصلاة والسلام: (عليك بذات الدين تربت يداك) إشارة إلى أنه أبلغ في المقصود. وقال محمد: لا يعتبر إلا أن يكون فاحشا كمن يصفع ويسخر منه أو يخرج سكران ويلعب به الصبيان لأنه من أمور الآخرة فلا يبتني عليه أحكام الدنيا، ولأن الأمير النسيب كفء للدنية، إن كان لا يبالي بما يقولون فيه ولا يلحقها به شين، بخلاف الفاحش لأنه يلحقها به شين. وعن أبي يوسف إذا كان الفاسق ذا مروءة فهو كفء، وهو أن يكون متسترا لأنه لا يظهر فلا يلتحق بها الشين. قال: (وفي الصنائع) لأن الناس يعيّرون بالدنيء منها. وعن أبي حنيفة أنه غير معتبر فإنه يمكن الانتقال عنها فليست وصفا لازما. وعن أبي يوسف لا يعتبر إلا أن يفحش كالحائك والحجام والكناس والدباغ فإنه لا يكون كفؤا لبنت البزاز والعطار والصيرفي والجوهري. قال: (وفي الحرية) فلا يكون العبد كفؤا للحرة لأنها تعير به فإنه نقص وشين. قال: (وفي المال) وهو ملك المهر المعجل والنفقة في ظاهر الرواية حتى لو وجد أحدهما دون الآخر لا يكون كفؤا، لأن بالنفقة تقوم مصالح النكاح ويدوم الازدواج فلا بد منه، والمهر بدل البضع فلا بد من إيفائه؛ والمراد به ما تعارف الناس تعجيله حتى يسمونه نقدا والباقي بعده تعارفوه مؤجلا. وعن أبي يوسف إن كان يملك المهر دون النفقة ليس بكفء، وإن كان يملك النفقة دون المهر فهو كفء لأن المهر تجري فيه المساهلة، ويعد الرجل قادرا عليه بقدرة أبيه. أما النفقة لا بد منها في كل وقت ويوم. وفي النوادر عن أبي حنيفة ومحمد: امرأة فائقة في اليسار زوجت نفسها ممن يقدر على المهر والنفقة رد عقدها. وقال أبو يوسف: إذا كان قادرا على إيفاء ما يعجّل ويكتسب ما ينفق عليها يوما بيوم كان كفؤا لها، ولا اعتبار بما زاد على ذلك لأن المال غاد ورائح. قال: (ومن له أب في الإسلام أو الحرية لا يكافئ من له أبوان) لأن النسب بالأب وتمامه بالجد (والأبوان والأكثر سواء) لما بينا. وعند أبي يوسف الواحد والأكثر سواء، وقد سبق في الدعوى، ومن أسلم بنفسه لا يكون كفؤا لمن له أب واحد في الإسلام لأن التفاخر بالإسلام، والكفاءة في العقل، قيل لا تعتبر، وقيل تعتبر، فلا يكون المجنون كفؤا للعاقلة. قال: (وإذا تزوجت غير كفء فللولي أن يفرق بينهما) دفعا للعار عنه، والتفريق إلى القاضي كما تقدم في خيار البلوغ، وما لم يفرق فأحكام النكاح ثابتة، ولا يكون الفسخ طلاقا إن الطلاق تصرف في النكاح وهذا فسخ لأصل النكاح، ولأن الفسخ إنما يكون طلاقا إذا فعله القاضي نيابة عن الزوج وهذا ليس كذلك، ولهذا لا يجب لها شيء من المهر إن كان قبل الدخول لما بينا، وإن دخل بها فلها المسمى وعليها العدة ولها نفقة العدة للدخول في عقد صحيح. قال: (فإن قبض الولي المهر أو جهز به أو طالب بالنفقة فقد رضي) لأن ذلك تقرير للنكاح وأنه رضي كما إذا زوجها فمكنت الزوج من نفسها (وإن سكت لا يكون رضى) وإن طالت المدة ما لم تلد لأن السكوت عن الحق المتأكد لا يبطله لاحتمال تأخره إلى وقت يختار فيه الخصومة (وإن رضي أحد الأولياء فليس لغيره ممن هو في درجته أو أسفل منه الاعتراض وإن كان أقرب منه فله ذلك) وقال أبو يوسف: للباقين حق الاعتراض لأنه حق ثبت لجماعتهم فإذا رضي أحدهم فقد أسقط حقه وبقي حق الباقين. ولنا أن هذا فيما يتجزأ وهذا لا يتجزأ وهو دفع العار فجعل كل واحد منهما كالمنفرد كما مر، وهذا لأنه صح الإسقاط في حقه فيسقط في حق غيره ضرورة عدم التجزي كالعفو عن القصاص وصار كالأمان، بخلاف ما إذا رضيت لأن حقها غير حقهم، لأن حقها صيانة نفسها عن ذلك الاستفراش، وحقهم في دفع العار، فسقوط أحدهما لا يقتضي سقوط الآخر وروى الحسن عن أبي حنيفة إذا تزوجت بغير كفء لم يجز. قال شمس الأئمة السرخسي: وهو أحوط فليس كل ولي يحسن المرافعة إلى القاضي، ولا كل قاض يعدل، فكان الأحوط سد هذا الباب، ولو انتسب إلى غير نسبه فتزوجته إن كان النسب المكتوم أفضل لا خيار لها ولا للأولياء كما إذا اشتراه على أنه معيب فإذا هو سليم، وإن كان دونه فلها ولهم الخيار، وإن رضيت فلهم الخيار لما تقدم، وإن كان دونه إلا أنه كفء بالنسب المكتوم فلا خيار للأولياء لأنه كفء لهم فلا عار عليهم ولها الخيار لأنه شرط لها زيادة منفعة، وقد فاتت فيثبت الخيار كما إذا اشترى عبدا على أنه خباز أو كاتب فوجده لا يحسنه، وهذا لأن الاستفراش ذل في جانبها، وهي إنما رضيت باستفراش من هو أفضل منها، وإن كانت هي التي غرّته فلا خيار له لأنه لا يفوته شيء من المصالح، والكفاءة ليست بشرط من جانبها، وهو قادر على الطلاق وصار كالجب والعنة والرتق. وعن أبي بكر الرازي وأبي الحسن الكرخي أنه لا تعتبر الكفاءة، وهو مذهب مالك لقوله تعالى: {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى (إلى أن قال: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13]. وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى) وقال عليه الصلاة والسلام لأبي هريرة: (لو كان لي بنت لزوجتك) وروي أن بلالا خطب امرأة من الأنصار فأبوا أن يزوجوه، فقال له عليه الصلاة والسلام: (قل لهم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمركم أن تزوجوني) وجوابه ما تقدم، ولأن المراد بالآية حكم الآخرة لا الدنيا، لأن التقوى لا يعلم حقيقتها إلا الله وثوابها في الآخرة وكذا قوله عليه الصلاة والسلام: (المراد به الفضل عند الله تعالى) وهو جواب الحديث، ويجب الحمل عليه توفيقا بين الأدلة. قال: (وإن نقصت من مهر مثلها فللأولياء أن يفرقوا أو يتممه) ولا إشكال في ذلك على قولهما لأنه يجوز نكاح المرأة بغير إذن وليها أما على قول محمد فلا إشكال أيضا على رواية رجوعه. إلى قول أبي حنيفة، وعلى قول الأول فيه إشكال لأنه لا يصح نكاحها عنده إلا بإذن الولي. قالوا: صورته إذا أكره الولي المرأة على النكاح بدون مهر المثل ثم زال الإكراه فأجازت النكاح فللأولياء الاعتراض عند أبي حنيفة خلافا لهما على ما تقدم.
(المهر أقله عشرة دراهم أو ما قيمته عشرة دراهم، ولا يجوز أن يكون إلا مالا) والأصل فيه قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم} [النساء: 24] علق الحل بشرط الابتغاء بالمال فلا يحل دونه، وسقوطه بالطلاق قبل الدخول عند عدم التسمية لا يدل على عدمه لأنه يشبه الفسخ، وسقوط العوض عند وجود الفسخ لا يدل على عدم الوجوب، ولأن سقوطه يدل على ثبوته إذ لا يسقط إلا ما ثبت ولزم، والتنصيف بالطلاق قبل الدخول ثبت نصا على خلاف القياس، والمذكور في الآية مطلق المال فكان مجملا، والنبي عليه الصلاة والسلام فسره بالعشرة فقال فيما رواه عنه جابر وعبد الله بن عمر: (لا مهر أقل من عشرة دراهم) ولأن المهر ثبت حقا لله تعالى حتى لا يكون النكاح بدونه، ولو نفاه أو سكت عنه، ولهذا لكان لها المطالبة بالفرض والتقدير وأنه يبتني على وجود الأصل، وما ثبت لحق الله تعالى يدخله التقدير كالزكاة. قال: (فإن سمى أقل من عشرة فلها عشرة) وقال زفر: لها مهر المثل لأنه سمى ما لا يصلح مهرا فصار كعدم التسمية. ولنا أن العشرة لا تتبعض في حكم العقد، فتسميته بعضه كتسميته كله كالطلقة، وكما إذا تزوج نصفها، لأن الشرع أوجبه إظهارا لخطر النكاح، ولا يظهر بأصل المال لتناوله الحقير منه، وما أوجبه الشرع تولى بيان مقداره كالزكاة، ولأنها حطت عنه ما تملكه وما لا تملكه، فيسقط ما تملكه وهو الزيادة على العشرة، ولا يسقط ما لا تملكه وهو تمام العشرة، كما إذا أسقط أحد الشريكين الدين المشترك يصح في نصيبه خاصة. قال: (ومن سمى مهرا لزمه بالدخول والموت) أما الدخول فلأنه تحقق به تسليم المبدل، وبالموت يتقرر النكاح بانتهائه فيجب البدل (وإن طلقها قبل الدخول لزمه نصفه) لقوله تعالى: {فنصف ما فرضتم} [البقرة: 237]. قال: (وإن لم يسم لها مهرا أو شرط أن لا مهر لها فلها مهر المثل بالدخول والموت والمتعة بالطلاق قبل الدخول) لأن النكاح صح فيجب العوض لأنه عقد معاوضة، والمهر وجب حقا للشرع على ما بينا، والواجب الأصلي مهر المثل لأنه أعدل فيصار إليه عند عدم التسمية، بخلاف حالة التسمية لأنهم رضوا به، فإن كان أقل من مهر المثل فقد رضيت بالنقصان، وإن كان أكثر فقد رضي بالزيادة. قال عليه الصلاة والسلام: (المهر ما تراضى عليه الأهلون) وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم: قضى في بروع بنت واشق الأشجعية بمهر المثل، وقد تزوجت بغير مهر ومات عنها قبل الدخول. وأما وجوب المتعة بالطلاق قبل الدخول فلقوله تعالى فيه: {ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} [البقرة: 236]. قال: (ولا تجب إلا لهذه) لأنها قائمة مقام نصف المهر وهي خلف عنه فلا تجتمع مع الأصل في حق غيرها، ولهذا لو كانت قيمتها أكثر من نصف مهر المثل وجب نصف مهر المثل ولا ينقص من خمسة دراهم (وتستحب لكل مطلقة سواها) قال: (والمتعة درع وخمار وملحفة) هكذا ذكره ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما (يعتبر ذلك بحالة) لقوله تعالى: {على الموسع قدره)) ولا تزاد على قدر نصف مهر المثل) لأن النكاح الذي سمي فيه أقوى، فإذا لم يجب في الأقوى أكثر من نصف المهر لا يجب في الأضعف بطريق الأولى. قال: (وإن زادها في المهر لزمته الزيادة) لما مر في البيوع في الزيادة في الثمن والمثمن (وتسقط بالطلاق قبل الدخول) وعند أبي يوسف تتنصف بالطلاق قبل الدخول، لأن عنده المفروض بعد العقد كالمفروض فيه. وعندهما التنصيف يختص بالمفروض فيه. وأصله أنه إذا تزوجها ولم يسم لها مهرا ثم اصطلحا على تسمية فهي لها إن دخل بها أو مات عنها، وإن طلقها قبل الدخول فالمتعة. وقال أبو يوسف: يتنصف ما اصطلحا عليه لقوله تعالى: {فنصف ما فرضتم} [البقرة: 237]. ولهما أن هذا تعيين لما وجب بالعقد من مهر المثل، ومهر المثل لا يتنصف، فكذا ما يقوم مقامه، والفرض المعروف هو المفروض في العقد، وهو المراد بالنص. قال: (وإن حطت من مهرها صح الحط) لأنه خالص حقها بقاء واستيفاء فتملك حطه كسائر الحقوق. قال: (والخلوة الصحيحة في النكاح الصحيح كالدخول) لما روى محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كشف خمار امرأة ونظر إليها فقد وجب الصداق دخل بها أو لم يدخل) وروى زرارة بن أبي أوفى قال: قضى الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم أنه إذا أرخى سترا أو أغلق الباب فلها الصداق كاملا وعليها العدة. وقال عمر رضي الله عنه: فيه ما ذنبهن إذا جاء العجز من قبلكم، ولأنه عقد على المنافع فيستقر بالتخلية كالإجارة ولأنها سلمت المبدل إليه فيجب لها البدل كالبيع (وكذلك العنين والخصي) لما ذكرنا. (و) كذلك (المجبوب) وقالا: يجب عليه نصف المهر لوجود المانع قطعا وهو أعجز من المريض، وله أن المستحق له في هذا العقد إنما هو السحق وقد سلمت إليه ذلك (والخلوة الصحيحة أن لا يكون ثم مانع من الوطء طبعا وشرعا، فالمرض المانع من الوطء من جهته أو جهتها مانع طبعا، وكذلك الرتق والقرن) وكذا إذا كان يخاف زيادة المرض، فإنه لا يعرى عن نوع فتور (والحيض) مانع شرعا وطبعا إذ الطباع السليمة تنفر منه (والإحرام) بالحج والعمرة فرضا أو نفلا (وصوم رمضان وصلاة الفرض) مانع شرعا. أما الإحرام فلما يلزمه من الدم، وفي الصوم لما يلزمه من الكفارة والقضاء، بخلاف التطوع فإنه يجوز إفطاره بعذر يتعلق بحق الآدمي كالضيافة، ولا كذلك رمضان والمنذور والقضاء فيه روايتان؛ وقيل في صوم يوم التطوع روايتان، وكذلك السنن إلا ركعتي الفجر والأربع قبل الظهر لشدة تأكيدها بالوعيد على تركهما، والمكان الذي تصح فيه الخلوة أن يأمنا فيه اطلاع غيرهما عليهما حتى لو خلا بها في مسجد أو حمام أو طريق أو على سطح لا حجاب له فليست صحيحة، وكذلك لو كان معهما أعمى أو صبي يعقل أو مجنون أو كلب عقور أو منكوحة له أخرى أو أجنبية؛ وفي الأمة فيه روايتان، وعليها العدة في جميع ذلك احتياطا لأنها حق الشرع. قال: (وفي النكاح الفاسد لا يجب إلا مهر المثل، ولا يجب إلا بالدخول حقيقة) لأن الحرمة قائمة وأنها مانعة شرعا، فلا يجب إلا باستيفاء منافع البضع حقيقة، وإنما يجب مهر المثل لأنه لما فسد المسمى صرنا إلى مهل المثل، إذ هو الموجب الأصلي لما مر (ولا يتجاوز به المسمى) لأن المستوفى ليس بمال وإنما يتقوم بالتسمية، فإن نقصت عن مهل المثل لا تجب الزيادة عليهما لعدم التسمية، وإن زادت لا تجب الزيادة لفساد التسمية بخلاف البيع الفاسد حيث تجب القيمة بالغة ما بلغت لأنه مال متقوم فيتقدر بدله بقيمته (ويثبت فيه النسب) لأنه مما يحتاط في إثباته، وأول مدته وقت الدخول، بخلاف النكاح الصحيح حيث يعتبر من وقت العقد، لأن الصحيح داع إلى الوطء فأقيم العقد مقامه، والفاسد ليس بداع لما بينا من الحرمة فلا يقام العقد مقامه، وعليها العدة احتياطا وتحرزا عن اشتباه النسب، وأولها يوم التفريق لأنها وجبت لشبهة النكاح، والشبهة إنما ترتفع بالتفريق.
|